حكاوي "
بنينه" ( 16)
" شفرة"
بعد خمسة ايام من بدء
العمل في العيادة أصبحت أشعر بالراحة والاطمئنان من انني أستطيع التعامل مع
الحالات المرضية بطريقة معقولة، ويبدو ان حالة من الرضا شاعت في القاعدة على طريقة
العمل وساعات الدوام. وما أسعدني أكثر هو الشباب " الكبانية" الذين
استطاعوا ان يخلقوا جوا أعطى العيادة حيوية، جعلت من اغلب الضباط يمر بها للتحية
او استشارات بسيطة و" هدرزة" عالماشي والجنود كذلك...
لاحضت ان عدد كبير من
الجنود الصغار في السن جاؤوا يوم أمس بأعراض " الكحة" الجافة، ولم يكن
من بينهم احد بكحة مصحوبة ب "البلغم"، أعطيت المجموعة الاولى شراب
" شروبو" يساعد على إيقاف عارض " الكحة"، ولكن عندما زاد
العدد أكثر، بدأت في الفحص بدقة حتى لا أغفل اي نوع من " الحميات" فكانت
الحرارة طبيعية ولا توجد اي حشرجة عند سماع الصدر ب " السماعة".....
احترت في الامر،
وبدأت أخمن في " السر" وراء هذه الزيادة الملحوظة، حتى ان احدهم دخل،
وطلب الدواء اللي عطيته زيه " سمير"........ سألته، ومن "
سمير" هذا ؟!
" سمير"
هاذاكا اللي جي امبدري،.. واعطيتوه شيشه " شروبو"؟!...متاع "
اكتيفيد" عرفتا يا دكتور ... شيشه
"
اكتيفيد"،... وانا يا دكتور عندي " الكحة" هلبه .. هلبه،... تقدر
تعطيني " زوز"؟!.....
وانا قاعد نحلل ونفسر
في الكلام،.. وحايس، دخل على الخط " بنينه"،... عدي روح،... عدي روح
خيرك،... قتلك روح ....،.. استغربت وهممت ان أكلمه، الا ان الطرق على الباب إثارني
فالتفت اليه،.. تفضل.. تفضل ...
فتح الباب، وبرز راس
احد الشباب في العيادة،.. يا " بنينه" الجماعة طالبينك،.. "
الجماعة" مع غمزة خفيفة ،.. رد " بنينه" يستر الله يا دكتور،...
وقبل ان يخرج،..
التفت الي وقال يا دكتور،... الصناديق يللي فيهن " اكتيفيد" سع نكلم
" الكبانية" يرفعوهن لدارك، .... اطمرهن تحت السرير؟!!.....
......
فحصت المريض، ونفس
القصة كيف جماعته " كحة" بدون اي أعراض اخرى،... عطيته شيشه "
شروبو"،... وطلب الثانية،.. فقلت له انت اكمل الاولى وبعدين تعال مرة اخرى
اذا ما تحسنت!!..
رجع "
بنينه" بعد خروج المريض، وابلعني ان جماعة الأمن هم الذين طلبوه ويريدون
التحقيق معه على الكلام المشفر الذي قاله في جهاز اللاسلكي في "
الكفرة"..... ان شاء الله خير،... ما تخافش،... لا ما عندي عليش خايف يا
دكتور .......
لم يرجع "
بنينه" الا عند وقت الغذاء،.. وما ان وصل، حتى استجوبوه من جديد، أصدقائه
" الكبانية"...
كنهم،.. كنهم،.. ايش
يريدو فيك؟!....
بداء الحديث عن
استجوابه، وقال؛
يا سيدي،.. نا بيدي
اول ما قمعزت،.. قاللي فيش اتخطط ؟!..
قلتله،.. والله كان
أسخر الحال،.. نا بيدي نريد نتزوج،.. وعيث " مريم" صابرين" من زمان
ليهم خمس اسنين،.. وانا نخطط،.. لكن بيش؟!!... " العين بصيرة واليد
قصيرة"،... وتما الجماعة يضحكوا... كيخ كيخ كيخ،....
قلتلهم،.. كنكم يا
عرب،.. وهال الكلام اللي عليته فيهش ما يضحك؟!!...
قالوا،.. لا لا يا
" بنينه" نحنا نريدو نعرفوا أيش تقصد ب " بيعك تفريط، يام
قشاشيط"؟!...
وهما قالوها،.. وتو
عاد دوري نا،.. قلت كيفهم كيخ كيخ كيخ،... وقعدت نضحك،.. والله من ضحكت لين بطلت!!
قلتلهم،.. وهذا عليش
جايبيني هانياهي؟!..
ايوه يا "
بنينه"..
قلت لا تخطيط لا
تزمعيط،.. ولا حاجه،... نا بيدي " موال" وعندنا غلم،.. وقت تسخن
الدنيا،.. موسم " اجلامه"،.. تعرفوا " الجّلامه"،.. واحد هز
راسه عارفا،.. وإلاخر قال لا مانعرفاش....
قلتله،.. ريت "
الثنيان" و " الحوليات" وقت ايجلموهن،.. يخلو فيهن شوية صوف على
ظهورهن، نقولولها " قشوطه"،.. ونا بيدي نحكي معا صاحبي هانياهي،.. حكينا
على الغلم،.. خطرن عليا،... قلتها،.. " بيعك تفريط، يام قشاشيط"،.. وهذا
حدها.....
وانتو،.. جماعة
" الدعم لكتروني" ما لقيتوا ما تديروا ،.. جيبتوني هانياهي،...نا بيدي،
حاسبكم تصنتوا على " التشادية"،.. عطبك عليك زمانات،....
....
وعاودوا التحقيق ثلاث
مرات،.. بلكي يحسابوا نغير كلامي!!!.
....
وما ان انتهى من
كلامه،. حتى وقف احدهم وبدئ التمجريد،...
بيعك تفريط :: يام
قشاشيط ......شوط
دارو تحقيق :: "
بنينه" وحوليه تشوشيط......شوط
وفي جو احتفالي تهكمي
قضوا لحظات وهم يضحكون على " الدعم لكتروني" الذي رصد معلومة حساسة تهدد
الأمن القومي،.. حول غلم " بنينه"......
..............
في العيادة
المسائية،.. استمر الطلب على شروبو " اكتيفيد" عيني عينك، و "
الكبانية" سمعوا كلام " بنينه" ووضعوا كل الكمية تقريبا بصناديقها
تحت سريري، اي بين" البلكات"،...
سألتهم،.. لماذا الطلب
زاد على " اكتيفيد" وهل عندكم " الكحة" حتى أنتم؟!...
لا لا يا دكتور،...
لا " كحة" لا سو،.. هاذيم " يسمطوا" فيها؟!!...
ايش يعني "
يسمطوا" فيها؟!!
يعني ياخدو في جو يا
دكتور، ياخدو في جو،.... شروبو " اكتيفيد" يدوخ ويخليك عايش جوك تمام!!!
وانا مذهول،... قصدكم،..
كل الذين اتو في الصباح والمساء ويوم أمس " يسمطوا" فيها؟!....
يا دكتور،.. هنا ما
عندك ما تعمل،.. والجماعة اللي روحوا من " وادي الدوم" فيه منهم اللي
مازال " متهستر"،... وموش مصدق انه رجع حي،... يا دكتور راه الجماعة
وضعهم صعب!!
ما حد حتى حكا
معاهم،.. او شرح لهم الأسباب،.. وقال لهم من مات ومن لا يزال على قيد الحياة؟!.
يا دكتور " وادي
الدوم" كارثة،.. عمرك أسمعت الجيش الليبي مهزوم؟!..
زمان،.. في الاول،..
في اول الثمانيات دخلت القوات الى تشاد، في اقل من خمسة وأربعين يوم كانوا "
مقرطسين" كل تشاد، وعلى حدود " نيجيريا"،.. كان الجيش جيش، قوي
منظم، ومدرب زين وفيه إمكانيات..
الجيش يا دكتور
" فركسوه"،..
..............
هذا يوم "
الشفرات"،.. من شفرة " بنينه"،.. الى شفرة "
اكتيفيد"،... وننتهوا بشفرة " الجيش"،...
تربحوا فكوني،...
فكوني،.. انا فعلا مازال " ما نفهمش في النفسية"....
حكاوي "
بنينه" ( 17)
الجو في قاعدة "
السارة" او " معطن السارة" في شهر ابريل حار جداً، تبلغ درجة
الحرارة 40 درجة في اغلب الأوقات بين وقتي الظهر والعصر، وأفضل الأوقات فيها هو من
بزوغ الفجر حتى الثامنة صباحا، وساعة قبل أذان المغرب وحتى وقت متأخر من الليل.
جفاف الجو وانعدام الرطوبة تجعل " الماء" اهم ما يمكن ان تقع عليه يدك،
وربما هذا ما جعل " معطن السارة" تهفو اليه القوافل في سابق الزمان في
رحلتها من الشمال الى الجنوب، والعكس كذلك.
خط سير هذه القوافل
يمر على مدينة " الكفرة" في الاراضي الليبية، ويتفرع عند دخوله بر تشاد
الى " فادا"، و " ابشه" في وسط البلاد وشرقها الشمالي، و
" ازوار" و " فايا لارجو" من جهة الغرب. وبذلك يحمل هذا
المكان مكانة استراتيجية في حماية الحدود الجنوبية للبلاد. أنشئت فيها مرافق تبعث
على الاطمئنان، اذ بوقوعها في قلب منطقة واسعة ومنبسطة تجعل سيطرة " سلاح
الجو" شبه كاملة، ومن المستحيل ان تفكر اي قوة من تهديد " قاعدة
السارة" بدون افتضاح أمرها والقضاء عليها مئات الكيلومترات داخل الاراضي
التشادية.
" سلاح
الجو" كان حاضرا بقوة، بطائرات استطلاع ومقاتله، ونقل عسكري، وخطوط الإمداد
كانت تصل من الثلاث مراكز الرئيسة في البلاد تلك الفترة " طرابلس، بنغازي،
وسبها".
في "
السارة" انت مقطوع عن العالم، والأخبار هي ما ينقله القادمين الجدد، او النزر
اليسير مما يقوله بعض الضباط ذو الرتب العالية، الذين عندهم إمكانية الاتصال
الهاتفي المحدود و " المراقب"!!!
.....
بعد ان تعودت على نسق
الحياة فيها، وجدت ان " التويوتا" التي خصصها سيادة "
الكنقرس" للعيادة لها فائدة عظيمة، اذ ان بها " راديو" ما سمعت
"صفاء" موجات صوتية مثله من قبل، وبذلك استطعت ان ادخل الجولة الصباحية
بعد الفجر بالسيارة بما يتيح لي سماع الأخبار وبعض البرامج خصوصا إذاعة الكويت
وفيها " عند جهينة الخبر اليقين"، وإذاعة الشرق الأوسط المصرية وفيها
" الهشك بشك"، وبالطبع إذاعة لندن التي فيها وبدون أدنى شك "
النباء اليقين"......
اما في ساعات الليل
فكنت حريصا ان اسمع شيء قليل من " صوت الوطن العربي"، حتى أتأكد انني
لازلت في أعيش في الواقع، ولا تاخدني الأحلام، عملا بمبدأ " يا شراب الحليب
مرجوك للميه"...
......
كثيراً ما تجولت،
وسألت نفسي، كيف استطاعوا ان يعملوا كل هذا في عمق أعماق الصحراء، وصالة مطار
" بنينه" ضيقة لا تكاد تمر فيها أوقات الزحمة الا وانت تكاتف كل من يمر
بجانبك؟!..
عدد من آل "
دشم" الكبيرة يخزن فيها كميات كبيرة من الأطعمة الجافة، وأخرى فيها أسلحة
يعلوها " الغبار" بكثافة.
..... هالني ليلة
البارحة حين ذهبت الى مركز الاتصالات، بعد دعوة تلقيتها من العسكري الذي يقوم
بالعمل فيها، غرفة كبيرة فيها شاشات، يستطيع ان يشاهد محطات تلفزيون عديدة، بالطبع
غير الليبية،.. وعندما عبرت عن دهشتي قال؛ يا دكتور غير شن ريت انت ؟!،.. هذه
المحطة متصلة بالأقمار الصناعية يعني " تلقط طول"...
... عرفت أيضاً، ان
بإمكانه الاتصال باي مكان في " ليبيا"، ثم سألته، ولماذ لا يتوفر
الاتصال للجنود حتى يتصلوا بأهلهم ؟!!.. ما نعرفش يا دكتور،.. هو كان يبوهم
يتصلوا،.. ممكن !!!!
ثم أردف،.. في تلفون
واحد مخصص للاتصالات،.. ونهض من مكانه وأشار الى خيط طويل يخرج من المحطة مسافة لا
بأس بها وفي نهايته تلفون...،.. هذا يا دكتور كل الجنود يتكلموا منه، لكن نفتحوا
فيه وقت محدود،.. يعني واحد يحصل " يدوي" كليمتين وواحد ما يحصلش ؟!....
... لكن يا دكتور فيه
واحد " كبير" ....يعني " كوز"... عنده تلفون وديما يكلم،..
ديما ديما،.... وبصوت منخفض قال؛ خشيت على الخط متاعه،.. القيته يكلم في "
المرأ"؟!....
اسمع يا دكتور،..
المحطة على حسابك،.. امتى ما تبي تتكلم غير تعال!!،... رديت عليه،.. شكرًا شكرًا،
وَبَارِكْ الله فيك، عارفك ما تقصر،.....
من اعيوني يا
دكتور....
وعند خروجي استدركت
وسألته؛ هل تسمعوا في المكالمات،.. يعني تصنتوا عليهن؟!.
آمالا كيف يا
دكتور،... الحكاية موش سايبه!!!،.. وكأنه خمن الهدف من السؤال،.. أردف لكن انت يا
دكتور " حر"، تكلم وتقول اللي تبي تقوله؟!!....... وما يسمعكش حد "
بكل".....
قلت في "
نفسي"،... ايه " عندي منه"!!
........
من كل الأماكن في
" السارة"، المزرعة هي الأقرب الى نفسي بعد العيادة الطبية طبعا، فانا
تربيت على عمل المزارع، وخبير في معظم اعمال الزارعة، فمن يسكن قرى الجنوب يتعذر
عليه العيش بدون " مزرعة"،... وربما حتى يوصف ب " الزلّك"،
وهي كلمة تطلق على الانسان " الزاطل" الذي لا عمل له،.. " يعني لا
خدمه لا قدمه".
... "
المزرعة" فيها بئرين، وفي ذلك الوقت كان " القضب" رابخ ما شاء الله
طول واخضرار، وفيه "النوار"...
" النوار"
الذي ينذر رؤيته في الصحراء، ولكن " القضب" الممتاز الذي شبع من الماء
والسماد يظهر " نوار" تتعلق به الكثير من الحشرات و"
العسيلة"...رائحة " القضب" مميزة في الصباح الباكر، خصوصا اذا كان
تشرب الماء وقت الليل،...
بلغت فرحتي مداها،
حين قابلت في المزرعة " الاشكداوي"، وهو عسكري من قرية "
أشكده" بوادي الشاطئ، وبعد التعارف وجد انني اعرف الكثيرين من اهل "
أشكده"،... مما جعله يقترب مني أكثر، ففي تلك الأماكن هناك قوة خفية تجذبك
الى كل من تتشارك معه في البيئة، يعني " الشراقة" يلمو على بعضهم، و
" الغرابة" كذلك، والآن الدور على " الفزازنه"....
"
الاشكداوي" لف بي في المزرعة،.. ونحن نتجاذب أطراف الحديث، ذكر لي ان الرائد
" محمود الزروق" عمل كثيراً للاعتناء بهذه المزرعة، وله فضل في إنشائها،..
ما إثارني انه لم يترحم عليه؟!!..
وعليه، سألته؛ آه...
وكيف اخبار الرائد "محمود"؟!.. والله يا دكتور اللي نعرفه انه في "
وادي الدوم" ولم اسمع عليه شي؟!!..... عندها سكت لبرهة ونحن نمشي في المزرعة،
ولا أتذكر ما كان يقوله ،.. فكل ما بذهني ذلك الوقت،... حتى موتك يا "
محمود" ما تستأهل يعرفها هلك وناسك؟!... شعرت بحسرة كبيرة جداً،.. لم يخفف
منها الا انني في " المزرعة" أحب الأمكنة الى قلبي...
أسترسل في كلامك بعد
ان ذهبنا نحو " النخل"،... الله الله الله،... " شبح النخل خطر
عليا بلادي".....
وقفت على "
النخل" واحدة واحدة، وأتأمل نوعها، هذه " تغيات"،.. "
تافسرت"،.. " مقماق"،.. وهكذا دواليك...
ودّعت "
الاشكداوي"،.. وهو يعدني انه سوف يأتي للعيادة في المساء "
الهذرزة"...
وانا أخمن،... هل
ابلغه عن مصير الرائد " محمود".... فهو من قريته وقريب له ؟!
آه،.. على وطن هكذا
يكافئ " أبطاله"؟!!....
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق