إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الجمعة، 20 مارس 2015

الجزء السادس من حكاوي بنينه




حكاوي " بنينه" ( 18)
بدأت افهم في " النفسية"
يوم الثلاثاء 14 ابريل 1987ميلادية، توافد على العيادة المزيد من الجنود الذين ضلوا طريقهم عند الهروب من معركة " وادي الدوم" - اذا صح ان تسمى معركة - وسقوطة في ايدي القوات التشادية يوم 18 مارس 1987 ميلادية،.. ما حكوه من قصص ومواقف يشيب منها الرضيع وتذهل منه الحوامل،.. " سقوط مريع"،... بكل معنى الكلمة
اول الحاضرين الى العيادة في صباح ذلك اليوم، لا زالت صورته عالقة في الذهن، ..كان يعاني من جفاف شديد جداً، مقاربا على الموت، مشى حافي القدمين أكثر من مئة كيلومتر، وعدة مرات توقف ظانا انه لن يقوم من نومته، بعد ان اعياه التعب والجوع والعطش، تحرقه أشعة الشمس، وتلفحه رياح الصحراء الجافة،.. ولولا أردة الله لما اهتدى الى منعرج في طريقة هداه الى حيث وجد، وهو في الرمق الأخير....
...
عينيه الزائغتين، ولسانه اليابس، بالرغم من القطرات التي سقوه بها، كانت اهم ملامحه،.. لم تكن له قدرة على الكلام في اول الامر،.. سارعنا الى إسعافه وهو بين الحياة والموت،.. وجدت صعوبة في إيجاد اي عرق من عروقه فقد ازاغها الجفاف،.. وعندها كانت عدة الجراحة الصغيرة وسيلة للبحث عن عروقه في القدم، وعلى عجل بدأنا في تغذيته بالسوائل، وتبليله بالماء،... ساعتين على احر من الجمر، وانا ادخل عليه بين الحين والآخر، انتظر ان اجد قطرة بول " واحدة"،.. اذ ذلك ما كان يؤرقني،.. هل فشلت الكليتين،.. ام حفظهما " حافظ السموات والأرض"...
بعد اربع ساعات، دخل " بنينه" يبلغني ان رأى " قطيرات" بول" كيف لون الشاهي في " التوبو" يا دكتور....
لا اجد حتى اليوم ما يعبر عن " الفرحة" بمثل هذا الخبر، وهو " قطيرات" من البول،.. اذ بحياة هذا الانسان " معنى الحياة" كلها.....
ساعة بعد ساعة، ابتلت عروقه واستعاد وعيه، وبدا يحدثنا عن محنته بعد ان انقطعت عنهم الاتصالات، فلا علم لهم بما يجري في "قاعدة الدوم" وهم الذين يحرسون أطرافها الشمالية،...
رجليه متقرحة وكانها أحرقت بالنار، كانت في حاجة الى العناية أكثر بكثير مما احتاجه " مصطفى"...
.......
يا الهي،.... كم من الجنود والضباط الليبيين الذين قضوا من " العطش" بعد ان تيبست أبدانهم وجفت عروقهم تائهين في هذه الصحراء الواسعة؟!!.
قبل الغذاء، أتى الى العيادة عسكري وطلب ان يتكلم معي، ناقلا رسالة من العقيد" محمد العباس"!.. تفضل،.. ادخل. ... لا لا انا مستعجل،. انا بس جاي نقولك ان سيادة الأفندي العقيد " محمد" عازمك على الغذاء في " بهو الضباط"،.. وهو حيجيك للعيادة وقت الغذاء..... حاضر ان شاء الله ...
أبلغت " بنينه" بالأمر، ولم تمضي الا لحظات وجاء سيادته للعيادة،.. بعد التحية،.. اطمئن على " الكبانية"،... ثم وجه كلامه الي؛ هيا هيا نتوكلوا على الله،... الغذاء يراجي!
ركبت معه، وما ان تحركت السيارة حتى توجه بها عكس اتجاه " البهو"،.. وبعد برهة سألني،.. أه ... كيف اخبارك يا دكتور؟!
الحمد لله،.. الحمد لله مرتاح، والجماعة متعاونين، والمرضى أمورهم الحمد لله،.. فيه حالتين عملت ليهم تحويل لطرابلس ووافقوا عليه مشكورين ..
وكيف الحالات يا دكتور؟!..
والله كيف المعتاد،.. بس والله... والله ...أيه لا كلهم حالهم باهي ( كنت أودّ ان احكي عن حالات الدوم، ثم قلت " بدل ساعة بساعة")....
احكي يا دكتور... احكي ...
والله يا أفندي،.. واجعيني حالات " الدوم"،.. لا حول الله كيف صار؟!!.... انا مستغرب،.. وماني مصدق!!
لا لا يا دكتور،.. صدق كل اللي تحق فيه، الجيش معنوياته " صفر" في " الوطا"..
ثم اسهب في الحديث؛
يا دكتور،.. الجيش أدمر،.. من فترة أدمر،.. هذه سياسة؟!..
تصدق يا دكتور، انه "عريف" يحكم في كتيبة فيها ضباط ؟!
تصدق يا دكتور، ما حد من الضباط الكبار راضي على اللي صاير،... لكن من يقدر يقول " لا"؟!
الجيش أدمر، ولا تدريب، ولا أعداد، كل اللي تحق فيهم من " التجييش" في حرب ورائها فرنسا، ومصر، وأمريكا.
اليوم، اللي راضيين عليه في " كتيبة أمنية" وهاذين لحماية " النظام"،.. والجيش اصبح " خردة"..
احنا غير راضيين، لكن لا احد يسمع ؟!!
.....
شعرت بالحسرة والصدق في كلامه،.. ولكن لم أشارك باي كلمة ربما تحسب عليّ، بالرغم من الاطمئنان الذي اشعر به نحوه... ربما أحسست انه هو " يفرج" على نفسه ويفرغ في شحنة من الغضب!!
استمر في الحديث،.. انا حبيت نبلغك اني مسافر في " مأمورية" غداً ، وان المقدم " مفتاح" هو الآمر بالوكالة بعد ما نسافر!... بس ولا يهمك،.. ولا تخاف منه،..
لا ادري اذا كانت كلماته ساعدت على ارتياحي ام ادخلت الخوف من جديد على ما تحمله الأيام القادمة؟!!..
وصلنا " للبهو" والغذاء الذي أعده خدمات غرفة " القيادة" جاهز للأكل...وباقي الضباط وكأنهم كانوا في انتظاره..
تشعب الحديث على وجبة الغذاء، وحينها شعرت ان هدفه كان إذابة " الجليد" مع المقدم " مفتاح"، الذي عّرفني عليه مجددا هذه المرة، مضيفا؛ تعال سلم وَبَارِكْ للعقيد " مفتاح" الذي كان بالطبع يلبس الرتبة العسكرية..
كان في الحديث الكثير من المودة بين الجميع، ولا كلام على " وادي الدوم" او حالة الجنود ومعنوياتهم.
ودعني العقيد " محمد" بعد ان أصر ان يوصلني بالسيارة، وعند نزولي، قال؛ كلام السيارة يقعد في السيارة!!، أومأت اليه بالموافقة.
داومت العمل في الفترة المسائية، بالذهاب ومتابعة حالة المريض الذي يعاني الجفاف، و بدا اكثر نشاط مما كان عليه، ولون البول اقل قتامة مع زيادة في كميته،.. فرحت وطمئنته على حاله، وانه وبفضل الله يتعافى..
...
ما ان جلست على الكرسي حتى دخل مريض، كبير في السن " يتلوى" ويصرخ من شدة الألم وكلتا يديه تقبض على حضنه!!.. ما ان تراه حتى تخمن ان يعاني أعراض " حصوة في الحالب"،.. تقدمت اليه وساعدته على الجلوس،.. ثم غيرت رايي، ونقلته الى سرير الفحص،. وبعد تاريخ مرضي سريع استنتجت منه ان عمره خمسون سنة، ودخل الجيش عن طريق التجييش الإجباري، متزوج وله ثمانية ابناء...
بعد ان تأكدت من خلوه من الحساسية للأدوية، هممت بحقنه بإبرة تخفف عنه الألم،.. بالرغم من شعوري انه فيه " ها ماها"...
قبل ان احقنه، سألته هل عنده الم في راسه أيضاً، فأجاب بنعم؟
ثم سألته،.. وهل يولمك كتفك الأيسر ورجلك اليمنى، فأجاب بنعم؟
عندها، شككت، وسألته، وهل عندك دم مع البراز ( حاشاكم الله)، فأجاب بنعم؟
او.. او،.. قلت في " نفسي" راجي شوي قبل الإبرة، خليني نحكي معاه!!...
أعطيته حبة " اسبيرو"،.. وداومت الحديث،.. منين انت يا عمي؟!
انا من " مزدة"،.. من " راس الطبل"،.. في " مزدة"،... تعرف " مزدة" يا دكتور....
يا سلام، كيف لا يا، ومن ما يعرف " مزدة" ..... يا عمي
وكل ما شاغلته في الكلام نقصت آلامه حتى عدل من وضعه على السرير،.. وبداء " يهدرز" ..." لا بيه، لا عليه"!!
وكيف حال الأولاد؟
خرجت " زفرة" من صدره تحمل كدر وغم، كأنك تراه مجسدا أمامك!
الأولاد، ليا ست اشهور ما شفتهم!!.. والله ماني عارف كيف صاير فيهم؟!!..
لا عارف كيف مدارسهم، وايش صاير في " الشويهات"،.. حالة يا دكتور
الخلاصة،.. ان ما جاء به للعيادة هو محاولته الحصول على تحويل " بإجازة مرضية" وراحة طبية الى طرابلس ومنها الى " راس الطبل"...
أسر لي بأمر يشغله، يخص " أهله" وعدته اني لن أبوح به!!
سبحان الله، ملامح وجهه قريبة من ملامح والدي،... ووجهه يعلوه " الشيب" وتبدو عليه قسوة الزمن!!
اسمع يا عمي،.. اسمع،.. انا بنعطيك راحة طبية شهر، وتحويل " عاجل" لطرابلس...
قفز من سرير الفحص وتغمرني، وعينيه تملائها الدموع، وهو يشكرني، ويدعو الله ان يوفقني، وان لا يريني مكروها في احدا من أهلي...... والكثير الكثير...
ويختم ويقول،.. الحمد لله بعد ست اشهور ألقيت من يسمعني!
أكملت أوراق التحويل، وأصريت ان أحملها بنفسي للتوقيع الى العقيد " محمد العباس" قبل سفرة..
......
في تلك الليلة، سألت نفسي؛ هل اخطأت بتحويلي هذا الرجل؟!
وانا استمع الى إذاعة " صوت الوطن العربي" تذكرت ان يوم الغد، هو الذكرى الأولي ويوم الانتصار على الإمبريالية العالمية، وذكرى إسقاط " ثلاثة وثلاثين" طائرة .......
وبين رضا ولوم على ما قمت به،... يبدو انني بدأت افهم في " النفسية"


حكاوي " بنينه" ( 19)
" رحم الله القصيمي"
يوم الأربعاء 15 ابريل 1987ميلادية
بدأت هذا اليوم في ساعاته الاولى، وانا استمع الى " تبقريف" الاستاذ " عبدالحميد" عبر موجات " صوت الوطن العربي" وهو يذكرنا بالنصر الكبير التي حققته " ليبيا" وانتصارها في ذلك اليوم على اعتى قوى الإمبريالية في العالم " أمريكا"، وكان لهذه الذكرى " الاولى" أشجان وأحاسيس اختلط فيها الخيال بالواقع.....
...
تابعت نشرة الأخبار وفيها توالت برقيات "التأييد والمبايعة" والتهنئة بهذه المناسبة العظيمة، التي يحتفل الشعب " المنتصر" لذكراها " الاولى"، وهو في غاية الفرح والسعادة، بانتصاره على قوى البغي والعدوان، وتصديه لستة وستين طائرة أقلعت من " حاملة الطائرات الامريكية" بريطانيا وعدوانها الغاشم على " ليبيا"، وإسقاط " ثلاث وثلاثين" منها بسواعد الابطال....
هو ذاته " الصوت" الذي كان يستنجد تلك الليلة بالمناضلين في كافة أنحاء المعمورة، للوقوف مع الشعب الليبي في صموده،... يا طياري موريتانيا،... يا طياري ارتيريا،... يا طياري العراق،... هلموا الى قلعة النضال...
كان للاحتفال بهذه الذكرى طعم خاص، وانا ارى " شواهد" هزيمة " وادي الدوم" امام ناظري، واسمع شهادتهم على ذلك السقوط المريع على ايدي " حفنة" من القوات التشادية على " تويوتات" فقط لا غير، وبالطبع مدعومين بقوة، بمعلومات " استخباراتية" دقيقة من القوات الفرنسية المتواجدة بالأرض التشادية وايضاً بمعلومات الأقمار الصناعية التى كانت تجوب الأجواء، ويمكن رؤيتها بكل بساطة في ساعات الليل، بسمائه الصافية...
ما كان " ربما"، يجهله ذلك المذيع، انني كنت شاهدا أيضاً على تلك الليلة 15 ابريل 1986 ميلادية!!!...
يومها، كنت طبيب امتياز مناوب في مستشفى 7 أكتوبر في مدينة بنغازي، وفي ذروة التصعيد والمواجهة بين النظام في " ليبيا" والإمبريالية العالمية متمثلة في زعيمته " أمريكا"، كانت احداث خليج التحدي، والمواجهة بين صقور السلاح الجوي الليبي و طياري الأسطول السادس الامريكي مادة إخبارية، خصوصا حين تطورت الى استهداف فرقاطات ليبية واغراقها...
كم كنت اشعر بالفخر، وصديقي وزميلي الطيار المقاتل " علي بوغراره" يحدثني عن طلعاتهم في تحدي للأمريكان الذين توغلوا في مياه خليج التحدي،..
تلك الليلة، تابعت موجز آخر الأخبار في غرفة الأطباء، وفيه خبر عن اجتماع عقده الرئيس الامريكي " ريغان" في منتجع نهاية الأسبوع " كامب ديفيد" سيء الصيت!!، مع مستشاريه حول " ليبيا"، وخلاصة الخبر ان الأمور على ما يرام، ومسيطرين على الموقف....
واصلت عملي بفحص مريض، مدرس " مصري" تخصص لغة انجليزية، التي كانت قد ألغيت " ما تلزمنا"، وهو يعاني من عوارض ارتفاع " ضغط الدم"، مما جرى له، بإنهاء عقده ورجوعه الى " ام الدنيا" بدون استعداد...
بدأت في تدوين حالته جالسا في غرفة التمريض، و " سارح" في مشكلته، ولم يقطع خيط أفكاري الا ذلك الصوت المزعج، " اختراق صوت" حقيقي لطيران حربي في ساعة متأخرة من الليل،... في بداية الامر ظننت ان نسور الجو الليبيين يستعرضون قوتهم او يقومون بمناورات ليلية،.. ولم تمضي الا ثواني واذ بصوت قوي، يشبه الأنفار الضخم يتبعه،.... ام.. ام ،.. هذا امر غريب،... مناورة ماشي الحال،... لكن " التقربيع" في نصف الليل ؟!!. هذا امر غريب....
هرعت على عجل الى السطح، اذ كنت في الدور الثاني للمستشفى، وما خطوت خطوة او اثنتين حتى مرت طائرتين على ارتفاع منخفض جداً جداً، متجهة من اتجاه البحر نحو داخل المدينة،.. وهنا أدركت ان الامر جد خطير؟!!...
التفتت الى يميني حيث جامعة قاريونس في الأفق البعيد، وكنت اعلم ان قاعدة صواريخ تقع في تلك الجهة، وشهدت ما يشبه لهب صاروخ، ظننته خرج منها متصديا لطائرات " المعتدين"،.. والتفت الى اليسار، وهنا رأيت وهج احمر يخترق عنان السماء في عمق المدينة،.........اذاً،.. انها الحرب،... انها الحرب...
اجتاحتني مشاعر التحدي، والرغبة في " الذود عن حياض الوطن" وكنت على استعداد ان اقدم نفسي رخيصة للدفاع عنه،.. مشاعر الغضب من أمريكا وسياستها وهي تعتدي على الوطن، لا يمكن قياسه،.. فكيف لها ان تتعدى على مدينة آمنه وأهلها نائمون في منتصف الليل؟!..
رجعت الى غرفة الأطباء، ووجدت النائب المناوب قد استيقظ من اثر الصوت المزعج،.. وبعد قليل أدركنا ان كل المرضى قد صحوا،.. أصبحوا يتهامسون ويتسائلون عن ما الذي يجري في البلاد؟!...
ونحن في " حوسه" وتلخبيطه" عن ما يجب ان نعمل، اذ لا وجود لخطط مسبقه،.. وبعد تقريبا اقل من نصف الساعة انقطعت الكهرباء وعم الظلام.......
بدأت أصوات ارجل الجنود وهي تطرق الطريق، وهم يهرعون الى القاعدة البحرية التي تجاور المستشفى تسمع بيسر،.. حينها ذهبت الى غرفة الأطباء وفتحت الراديو وإذاعة " صوت الوطن العربي" وأنغام الموسيقى لا زالت تصدح، ولم تمضي لحظات حتى انقطعت بصوت مذيع يعلن للعالم ان عدوان أمريكي غادر يقع الآن على مدينة " طرابلس"،.... لم يذكر غير " طرابلس"،.. وهنا تأكدت بانه لا يعلم او بالأصح "اولائك لا يعلمون" ما يجري في البلد الذي يحكمونه!!!.
...
اتصلت بكتيبة " دفاع جوي" في سبها آمرها احد أقاربي، لأجدهم " يغطون" في نوم عميق،.. وبعد انتظار تكلمت مع احد الضباط الذي يعرفني، وسألته عن الآمر،.. وبصوت هامس " راقد في البيت"؟!!.. يا الهي؟!
البلد تنتهك أجوائها وأنتم نائمون،... يا دكتور،.. احنا في طوارئ لينا كم عام!!!"
لم تبلغنا غرفة العمليات باي معلومات....،... أبلغته بان الأمريكان يقصفون بنغازي وطرابلس يا أفندي!!،.اجاب؛..صحيح باللهي؟!!.
من شدة خوفي على ابن عمي، بان يتهم بالتقصير،.. اتصلت ب" الوالد" في منتصف الليل وأخبرته بالذي يجري في بنغازي، وطلبت منه ان يبلغ الآمر، وذلك ما فعل....
....
بعد تقريبا الساعة وصلت سيارة إسعاف الى المستشفى، يطلبون ان يذهب معهم أطباء الى قاعدة " بنينه" التي استهدفها القصف،.. وكنت على أهبة الاستعداد، خصوصا ان المستشفى يحتاج ان يبقى فيه طبيب ذو خبرة،.. اذ لم يمضي على تخرجي شهرين..
في الطريق الى قاعدة " بنينه" وفي سيارة إسعاف " بيجو 504"، تسير اغلب الوقت في الظلام وإنارتها مطفأة، شهدت العديد من حوادث المرور والناس في " حيص بيص،...
وصلنا القاعدة، وكان في بوابتها ضابط برتبة " رائد" يحمل بندقية " كلاشنكوف" ومعه مجموعة جنود، سمحوا لنا بالدخول، الى الجهة التي كان بها العيادة، او ما يشبه العيادة.... حين وصلنا لم ندخل العيادة، فكل الموجودين كانوا بين الأشجار ومعهم القليل من الأدوية لا تكاد تذكر، منها السوائل والمحاليل الطبية وأدوات التغذية الوريدية،...
كان الخوف مسيطر على الجميع،... وسمعتهم يقولون ان الأمريكان عملوا " إنزال" مظلي في آخر القاعدة ...
معظم المصابين من القصف أخلوا قبل وصولنا، ولكن شهدت الجزء الأخير منهم، او بالأصح اشلائهم في منظر مرعب، وهم عبارة عن بقايا لحم آدمي محروق ومغطي بالتراب والقش وغيرها من خشاش الارض...
مناظر تنفطر منها القلوب،..
ما إثارني، ووجدت فيه استغراب ان كل الجنود الذين بالداخل " بدون سلاح" نعم " بدون سلاح"،... وكانوا يودون الهروب، ولكن يمنعونهم عند الباب....
أهكذا كانت الاستعدادات للتصدي للقوة الإمبريالية التي كنا نقارع أساطيلهما؟!!!!!!!!!!
ونحن على هذا الحال دوت صفارات الإنذار، تنبئ باحتمال " غارة" اخرى على قاعدة " بنينه"،.. وأخد الجنود حالة الانبطاح،.. وسارعت كذلك بالقيام بنفس الشيء، الا انني أخدت وقت أطول وانا اتوكأ ، اذ انني لم يسبق لي القيام بذلك على عجل ولم البس قيافة عسكرية ؟؟!.. وانا على هذه الحال ظننت ان تلك الصواريخ ستخترق ظهري فالتصقت بالأرض اكثر فاكثر،.. وكأني بذلك أنجو منها؟!..
وفي تلك اللحظات الحاسمة ودوي صوت صفارات الإنذار يصم الأذن،.. التفتت الى عسكري بجانبي وهو " يعنف" مجندة أخدت وضع " انبطاح" ولكنها كانت في وضع لا تعرف تضحك ام تبكي من رؤيته، وهي تبكي ،.. يا نا عليّ يا اميمتي،.. يا عليّ يا اميمتي،.. وهو يرد عليها،... وانت ايش جابك هانياهي؟!!...
استمر الحال بين وقوف وانبطاح لمدة الساعة تقريبا، ولم يخرجني منه الا قدوم عسكري بقيافة محترمة، مقدم في الجيش السوري او من " السرب"،.. وطلبوا مني مرافقته الى مستشفى الجلاء،.. حينها قال، ان فريقه يتكون من خمس وثلاثين، تمم عليهم جميعا ولا يفتقد الا أثنين، يود ان يبحث عنهم ليتأكد هل هم من الجرحى او الشهداء؟...
رجعنا الى مستشفى الجلاء، وقت الفجر " قبله او بعده"، وحالة من الهرج والمرج تعم المكان، لا مسؤول ولا قيادة، الكثير من " الفزعة" وخصوصا الأطباء وعلى رأسهم الاستاذ الدكتور عبدالرازق الزواوي ( رحمه الله) رئيس أقسام الجراحة ببنغازي...... الأطباء والممرضين يقومون بما يستطيعون، والممرات ممتلئة بهم، حتى طلبة كلية الطب، كانوا من الحاضرين،.......ولكن لا وجود الى مؤسسة أمنية او عسكرية تنظم الامر او تظهر صفات القيادة من مثل هذا الامر الجلل!.
ذهبنا الى "ثلاجة الموتى"، لأرى أشلاء، أطفال، نساء، شيوخ، وبعض العسكريين تتعرف اليهم ببقايا ملابسهم، مناظر تضل مطبوعة في الذاكرة ولا تمحوها السنين. مشاعر الفخر بالتصدي، والأسى للأرواح التي قُتلت ظلما وعدوانا وهم آمنين في بيوتهم... آه يا أمريكا......
رجعنا الى الأقسام الجراحية، ووجدنا المفقودين من " السرب" السوري، ومباشرة، أبلغ المقدم قيادته في دمشق عن الوضع الأمني وحالة جنوده وضباطه،....حينها كان كل الليبيين الذين رايتهم " هرديميسة" بكل ما تعني الكلمة!!!
رجعت الى غرفتي قبل الظهر، والوجوه شاحبة وعليها علامات الأسى من الحالة التي فيها البلاد من شبه انهيار، وأعقب ذلك فترة تمزيق " تشريك" ملفات المثابات الثورية، والخوف من القادم، اذ لم يخرج على الاعلام احد يبلغ الناس عن سلامة " القيادة".....
هربت الناس الى خارج المدينة، وشهدت مرتفعات " الرجمة" نزوح من يطلبون الأمن والأمان من بيوتهم نائمين في " الخلاء" ليبزغ الفجر ونور الشمس عليهم وهم نيام بجانب المعسكرات المستهدفة؟!...
... خرجت " القيادة" متمثلة في من ينوب عنها، لتعلم العالم عن سلامة " القيادة" من الموت وانتصار " ليبيا" على القوة الباغية، وتوالت طوال اليوم البلاغات عن حطام طائرات أمريكا على الأرضي الليبية..
الحصيلة كانت إسقاط " طائرة أمريكية" ومقتل طيارين اثنين.......
وبذلك دخلت " ليبيا" التاريخ ومنظومة الدول " العظمى" التي لا تقهر....
......
اين ذلك من هولاء الذين جاؤوا الى "العيادة الطبية" حفاة بين الحياة والموت، هاربين من معركة " وادي الدوم" تاركين ورائهم المئات من القتلى لتغطيهم رمال الصحراء ويطويهم " النسيان"...
رحم الله عبدالله القصيمي " العرب ظاهرة صوتية".....


هناك تعليق واحد:

  1. ويبقى الت(أ)ريخ شاهد عيان وحكم عادل / مافهته ان القدافي كان يخشى أن يكون الشيج قويا منظما عصريا مسلحا تسليحا جيدا معاصرا -*/ احسنت سيدي الكريم والى لقاء قريب -*/

    ردحذف