إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الجمعة، 20 مارس 2015

للدكتور سالم الهمالي شاهد عيان - لهيب الصحراء .. حكاوي بنينة عن احداث الساره



 للدكتور سالم الهمالي شاهد عيان

”  ” .. ومضة وخطوة نحو إماطة اللثام عن صفحات مطوية من تاريخنا المعاصر .
.. الحلقة الاولى .. من السردية
رزق الحكومة كيف الرميمة منين يواتيك أنتش
        في يوم شديد الحر ، صيف عام 1987 م ، موعد مع القدر ، طائرة الانتينوف الروسية رابضة على ارض مدرج مطار الكفرة ، صحراء جنوب شرق ليبيا ، ” بنينه ” هو الاخر ينتظر ، شاب في مقتبل العمر ، يتطاير من عينيه شغف المغامرة ، نظرات متوتبة ، قلق يحاصره وكأنه مرتاب من امر ما . ذلك لا يعنيني ، انا مجرد طبيب ثم استدعاءه للقيام بمهام وواجب وطني ، رفقة الجيش الليبي في مواطن متقدمة ، اسعاف جريح او معالجة مريض من ابناء وطني ، يقبع هناك في اقصى هجير الصحراء ، يعاني العزلة ، ووحشة المكان ، وصحراء يباب ، يطارده سافي الرمال من ناحية ، وجنود تشادين يتربصون الكيد به ، والانقضاض عليه ، الاكتئاب والقلق ولحظات الانتظار المرعب ، كل ذلك كان ماثلا في مخيلتي ، ما حفزني الى ان اسانده ، كيفما كان ، انا لست سياسيا ، انا الاخر مجرد جندي مأمور في مجتمع يعتنق عقيدةالشعب المسلح ” .
    وجهتنا قاعدة السارة في عمق الصحراء الليبية ، على مقربة من الحدود التشادية ونقاط التماس والمواجهات ، احدق فيما حولي ، وفي كل مرة اجدني وجها لوجه مع ذلك الواقف بجواري ، يرميني بنظراته الحادة ، وكأنه يقرءا كتاب على صفح خدي  ، التفت يسارا ، اعود مرة اخرى ، وكلما ادرت نظرى نحوه ، ادرك قدر اهتمامه بمتابعة حركتي ، تمعن وتحديق اثار توجسي . ساورتني شكوك حوله ، تساءلت : ألا يكون ضمن فرق الاستخبارات ويريد ان يراقب القادم الجديد .. ربما .
   يرتدي بدلة كاكي بطاطية اللون ، تجاعيدها المتسخة تنبئ بلا مبالاة ، لون العرق وطفح الملح على سطحها يرسم خرائط الكد والتعب ، انثناءات سرواله خلف ركبتيه تؤكد عن زمن طويل ظل لصيق جسده .
   مللت الانتظار لساعات ، حان اخيرا .. موعد الصعود .. الى الطائرة ، والتخلص من نظرات ” بنينه ” . وجدتني داخل هودج الطائرة رفقة ثلاثة ضباط من افراد القوات المسلحة ، وشحنة تموين منوعة ، تمر ، عصائر ، الى غير ذلك من مواد غذائية مختلفة . وفي الواجهة جلس بنينة صامتا ، يلملم كته العسكري الحاوي لحاجياته .
    برهة من الزمن اصبحت الطائرة في الاجواء ، وبعد مضى نصف ساعة من الطيران ، وبينما كان الضباط مستغرقون في مراقبة عبور فيافي الصحراء عبر نافذة الطائرة بمعية منظار صغير . همبنينه ” بعمل اخر ، فتح الكت ، واخذ يحشوه بما لذ وطاب من اصناف المأكولات ، دون خشية لوجودي وملاحظتي لفعلته ، ، ودون خلسة او عتب ضمير ، ولو لم تتورم احشاء الكت ، لما توقف . اصابني ذهول وعجب شديد ، سرقة بلا قناع ، عيني عينك وفي وضح النهار ” ، هكذا بدأ لي الامر . انتابني قلق وشعور بالخوف من القادم ، ولابد ان اخرون مثله في انتظاري .
    فجأة ، وقد انهى مهمته ، واطمأن على الغنيمة ، اقترب مني متسائلا بجرأة غير معهودة : ” كنك با بوناخي .. مد ايدك ” !! . ترددت في اختيار الاجابة ، وبنوع من المجاملة الساخرة ، ابتسمت ، ولم يترك لي فرصة هو الاخر ، اردف بالقول : ” رزق الحكومة كيف الرميمة .. منين يواتيك أنتش”!! . ودونما اطلب التعرف عليه ، عرفني بنفسه ، ” بنينه جندي ضمن قواتنا المسلحة الرابضة بالجنوب .
    ياااه .. ما هذا الرجل الذي يريدني ان اتحول الى لص . ويعرفني بنفسه دونما اطلب اليه . واعدت السؤال على نفسي ، ألا يكون احد عناصر الاستخبارات يستدرجني ؟ انا لا يمكنني ان اتصور يدي وقد امتدت الى المال العام ، فما بك وأمانة ، حق اخرون يقبعون في ظروف مغايرة غاية في القسوة .
تراكمت شكوكي اكثر ، لكنه لم يعير اهتمام للضباط الكبار المرافقين لنا ايضا ، انه منهم .. نعم ، ام انها سنة معهودة بين افراد المؤسسة العسكرية ، ربما .. فخ  جهاز الاستخبارات .. ربما .
اخترت الابتعاد عنه شيئا فشيئا . وكلما ابتعدت ، دنا مني يلاحقني . وما ان اصبح لصيق بي ، أشار بإصبعه نحو الضباط . وهمس في أذني : انهم عسكريين ، ويبدو انهم ” دايرينها “؟!! .
دايرينها ” ؟ّ!! .. عند هذا الحد تأكد لي انه يقوم بعمل استخباراتي . فالحرب في الجنوب لا تلقى ترحيبا في اوساط الشعب ، ألاف الارواح ازهقت ، واموال بالمليارات هدرت ، وحالة تململ وضجر يطويه الطاغية المستبد في ثنايا حناجر الافواه ، فلا تنطق الالسن بعبارة امتعاض . ولابد انهم يختبرون كل من هو متجه الى الجبهة او سيعمل قريبا منها ، خشية تعرية وقائع الهزائم . ولما لا ؟ ولكن هيهات .. هيهات .. ادرك ألاعيبهم ، خبرتهم بالممارسة منذ زمن طويل ، وعلى رأي المثل : ” على مين يا طبرق ” . تصنعت البلادة ، واللاكثرات . لكن هيهات .. ” بنينة ” لا يتوقف عن الهمز واللمز والوشوشة حول الضباط . وما عساهم فاعلون .
كبانية إقلال الوالي :: مو غايب منهم لا والي
         خيبة وامتعاض بنينة .. كسر رغبته في الفرار .. وان لم يكن في الامر غرابة ، فقبل ايام هرب طيارين الى مصر .. احدثت ضجة اعلامية .. تصدر الخبر نشرات الاخبار .. وعند نشرة اخبار اذاعة لندن .. يلتقون ..  الكل كان يتنصت لمعرفة من هم ، مصيرهم ، وهل سيتركهم وشأنهم .. وما عسى ما ينتظر اسرهم من تخوين وازدراء .
      جالس بمقعدي .. اهمهم وانتظر لحظة الوصول .. اقترب مني احد الضباط برتبة مقدم .. عرف بنفسه ، المقدم عبدالسلام ، يرتدي هندام متسق ، مزاجه الاعتزاز ، والضبط والربط العسكري .. لباقة في الحديث ، هو من شحات ، وعلى طريقتنا في التعارف ” تعرف فلان ” .. نعم سالم صديقي وابن دفعتي كلية الطب جامعة قار يونس . انقطعت عني اخباره ، قيل انه انزوى خارج البلاد . وغابت اخباره .
    وعن طبيعة عمله ، قائد لواء ميكانيكي .. معسكر  ” بوعطني”  بنغازي .. وفي طريقهم العودة من ارض  ” الفاشر” في السودان .. مكث هناك عدة اشهر ، والآن صدرت الاوامر بتوجه اللواء الى منطقة السارة . عرفت منه ان قواته تعرضت لهجوم ولكن لم تفقد احد من جنودها .. وانه كان بارعا حريصا على التنقل وتغيير موقعه . وبسبب ضحالة ثقافتي العسكرية ، لم اكن اعرف الفرق بين الرتب .. لواء .. عقيد .. شرح لي تراتبيتها ما ساعدني على تحديد اوزان الضباط القادة .
         كان لبقا ، له حضور في النفس .. ومن باب الدعابة وتلطيف الاجواء .. كانت امامنا كومة من الاحذية الرياضية ، .. قلت .. انها صالحة للعدو السريع على الرمل .. قصد حالة الهروب كما حدث قبل ايام بوادي الدوم . وأسراب الناجين الهاربين من المذبحة . ابتسم .. دون ان يعلق .
         شكرت الفرصة التي جمعتنا ، حييته بما يليق به . وفي الاثناء اقترب بنية بحرفية عسكرية ، ادى تهيؤ الاستعداد بجسارة فائقة ، وارفقه بالتحية .. وارتجل خطبة .. سيادة المقدم عبدالسلام .. سمعنا عنك كل الخير .. همتك العالية ، وتواضع النفس ، وطيب السريرة ، واريحية المزاج . ونتشرف بك .. نالت كلمات بنينة من اذن المقدم .. ابتهج بخجل .. رد التحية .. شكرا لك .. سلمت .. وعاد ليرحب بنا ثانية .. لكن نحن في الطائرة .. خذوا راحتكم .. وغادر .. وما ان توارى عنا .. تنحى بنينه جانبا ، اسر في اذني : ” هذا المقدم عبدالسلام حاجة كبيرة ، كوز كبيييير ” .
     حطت بنا الطائرة بقاعدة السارة .. وجدنا آمر القاعدة العقيد خليفة في استقبال المقدم عبدالسلام .. نظارات سوداء تغطي وجهه ، طابع الصرامة يكاد يقتله ، نياشين قوات الصاعقة تتدلى على صدره .. ادى تحية من باب المألوف .. وتعانقوا .. تبدو في ضحكاتهم نبرة بعيدة عن التكلف والروتين العسكري .. عرفت انهما اصدقاء قبل ان يكونا زملاء مهنة .
         بنينه هو الاخر وقف في حالة التهيؤ والاستعداد العسكري ، يداه مفرودتان الى الاسفل ، رجلاه مضموتان .. هامته الى الاعلى ، والقى التحية  .. رد الامر بشبيه لها .. رفع اصبعه مستوى تنية المرفق .. كدت ابتسم .. وانا انظر الى بنينه بسرواله المهلهل .. وثيابة الرثة .. والقبعة المفلطحة ، ومخلفات اعباء السفر ترسم تجاعيد  وجهه .. يقدم تحية الواجب .
        ذكرني المشهد بما قاله النقيب احمد عندما كنا سويا بمقر السرية الطبية في الكفرة .. بما يشي الى حالة التدمر والإحباط  لدى زمرة القادة الضباط من المشاركة في الحرب ، وغياب التنظيم والادارة .. حتى انه نقل على المقدم خليفه قوله ، انه كلف برسالة رسمية للالتحاق بامر المنطقة الجنوبية الذي هو نفسه .
   انتهت جوقة الاستقبال والسلامات ..  الضباط .. امتطوا سيارة تويوتا رباعية الدفع وغادروا ، وجاء الدور على استقبال بنينه من قبل زمرة الرفاق والاصدقاء الذين ينتظرون عودته بعد غياب .. كانوا يتغنون .. ” مجاريد  كشك ” .. وبدأ بنينه عريس وسلطان زمانه .. يتراقصون ويهللون .. يرددون غناوة علم :    كبانية إقلال الوالي :: مو غايب منهم لا والي .
         لم يكن أحد في انتظاري ، .. بادر بنينه ” بتقديمي الى رفاقه ..  تفضل يا دكتور .. اهلا دكتور .. هذا الدكتور حاجة كبيرة يا جماعة .. رفيق طريق والرفيق قبل الطريق .. طوال الرحلة كان الانيس .. خفف عني اثقالها .. خير جليس وو.. تركوا لي الكرسي الامامي بالسيارة التيوتا .. وامتطوا العربة خلف .. سار الركب الى حيث خيمهم ومآواهم .. بجوار العيادة .. هنا سأبدأ عملي منذ يوم الغد . في قاعدة السارة الجوية .. اقاصي صحراء الجنوب الليبي .. صحبة .. ” كبانية إقلال الوالي :: مو غائب منهم لا والي ” .


حكاوي " بنينه" ( ١)
" رزق الحكومة كيف الرميمة منين يواتيك أنتش"
في يوم شديد الحر من صيف عام 1987م جمعني القدر مع الجندي "بنينه"، وكلينا ينتظر طائرة لينتينوف الروسية الصنع الرابضة على مدرج مطار الكفرة متجهين الى قاعدة السارة في أقصى الجنوب الليبي. كان في عينيه بريق وفي نظراته توجس وريبة، وكلما أمعن النظر اليّ تعمق هذا الشعور الذي زاد رهبتي من هذه الرحلة كطبيب مرافق للجيش الليبي خلال حرب تشاد.
بدلة الكاكي ذات اللون البطاطي التي كان يرتديها كانت متسخة بعض الشيء، وعليها خطوط متعرجة من ملح العرق الجاف مصحوبة بعكرشة خلف ركبتيه مما أثار انتباهي، محاولا تفادي نظراته الثاقبة التي تكاد تخترقني، ... وبعد ساعة من الانتظار ركبنا التي كانت مملؤة بأكياس التمر وعلب عصير الكمثرى بالاضافة الى صناديق اخرى لم أتعرف على محتواها.... وضع " بنينه" كته العسكري الملفوف بدقة على جنب وغير اتجاه نظره الى أكياس التمر وعلب العصير. بعد نصف ساعة من الطيران مد يده الى كته ووضعه بين رجليه وقام بفتحه، ثم بداء في حشوه بكل ما طالت يده ليبلغ طول الكت ما يبلغ المتر او يفوق بقليل. غمرتني الدهشة وأصابني الذهول وانا أشهد ما ظننته سرقة عيني عينك في الطائرة التي تُقل عددا محدود من الركاب وبالتحديد ثلاثة غيرنا، أحدهم برتبة مقدم الذي جلس في مقدمة الطائرة وكأن له من رتبته نصيب. بينما ينتفخ الكت وتتورم أحشائه كان نصيبي هو الخوف من المصير الذي ينتظرنا عند الوصول وانا الجديد على كل ما هو عسكري.
أقترب " بنينه" مني كثيراً وهو ينظر الي نظرة حادة وسئل.... كنك يا بوبناخي .. مد أيدك ؟!!
كان التردد والخوف واضحا على وجهي، فابتسمت ابتسامة مجاملة محاولا الالتفات عنه، الا انه أردف قائلا " رزق الحكومة كيف الرميمة .. منين يواتيك أنتش"!!
بالطبع ما استطعت ان أمد يدي على شيء، وكل ما يجول بخاطري هو من يكون هذا العسكري؟ وهل هو استخبارات " انتينه" يتبعني؟! ... لماذا عَرَفَ بنفسه، فانا لم أسئله عن اسمه؟ وكيف لجندي واحد يسافر لوحده، وغيرها الكثير من الأسئلة والهواجس التي كنت أراها مبررة في ذلك الوقت.
مما زاد في شكوكي هو استطاعته القيام بذلك، وفي الطائرة ضابط كبير برتبة مقدم،.. هذا يعني انه منهم، نعم منهم، ولذلك بدأت في الابتعاد عنه شيئا فشيئا، ولكنه كان يقترب أكثر فاكثر حتى التصق بي وكأننا فريق واحد،.. ثم أشار بإصبعه الى الرجلين الآخرين الذين جلسوا كل على حده على يمين ويسار الطائرة ينظرون عبر منظار مكبر من النافدة وكأنهم يتابعون هدفا على الارض.. ثم التفت نحوي وهمس في أذني انهم عسكريين، ويبدو انهم " دايرينها"؟!! ...
هنا تأكدت انه يحفر لي ويختبر في توجهي، خصوصا ان الحرب في تشاد كلفت الكثير من الأرواح والرأي العام في ليبيا يمقتها ولا يرى اي فائدة من ورائها، وعليه فلابد انهم يختبرون كل من يذهب الى معسكرات الجيش. ولكن " على مين يا طبرق" لن أبوح بما في نفسي وسوف اتظاهر باني خالي قضية والأمر لا يعنيني،..
لكن هيهات، فيبدو ان " بنينه" من النوع الصعب وهو يصر على اشغالي في الحديث معه حول هاذين الرجلين وما ينويان عمله 


 حكاوي "بنينه" ( 2)
"انت الدكتور وأنا التمرجي"!
متابعة لحكاوي "بنينه" الذي التقيته في مطار الكفرة ونحن ننتظر الطائرة، وكما قلت لكم أنني كنت متخوفاً منه لعله يكون من "المخابرات". هذا الخوف كان مبرراً لملامحة التي كانت تثير العطف والشفقة، فعدا عن ملابسة العسكرية الرثة كان الوجه ذو اللحية الخفيفة والتي يتخللها كثيراً من الندب، آثاراً علي "حب الشباب" الذي يبدو انه قد عاني منه. كنت في عقلي أقول ...عسكري ذاهباً لوحدة غريبة .
أقنعت نفسي انه للتجسس عليّ، وزاد من ظنوني ملامحه وتصرفاته.
وبعد مضي أكثر من الساعة اقترب مني مجدداً ليسألني عن عملي. أجبته أنني طبيب حديث التخرج، قبل شهرين فقط، وأُمرت أن التحق بالجيش في تشاد، ثم عدلت إجابتي وقلت له في الحقيقة هو "تكليف" وليس أمر، حتى لا يفسرها ربما أني اعترض على الامر، بينما التكليف يحتمل الامر غصبا او تشريفا. بادلني بأبتسامة بدت لي حقيقية وبداء عليه انه سعيد بالتحدث الي.
أسترسل في الحديث عن أهله وانه من منطقة بنينه بجوار مدينة بنغازي، وانه أُدخل الجيش غصباً عنه فيما كان يعرف " التجييش". عندها أيقنت انه من الجماعة إياهم، وقلت في عقلي "العب غيرها".....
أنشرحت معالم وجهه بعد أن اطمئن على أن كته قد امتلاء حتي أذنيه، وبعدها بداء يغني في أغاني "علم" فهمت معظمها ولكن عجزت أن افهم ما يعني ب"بيعك تفريط يام قشاشيط". مضى ما يقارب الساعتين من الطيران، والغريب أنه كلما زاد زمن الطيران زاد من ابتهاج "بنينه" الي أن قرر أن يذهب الي قمرة القيادة مبتهجاً رافعاً يديه بالتكبير. الله أكبر ..الله أكبر.... الله أكبر، الله ينصركم!!!
في هذه الأثناء، كان الجنديين الذين رافقونا في الطائرة يخرجون مناظيرهم بين الفينة والأخرى وبدا وكأنهم يرصدون هدفاً يبحثون عنه، عبر نوافد الطائرة كما ذكرت، مما اثار " بنينه" ودعاه الى الاقتراب منهم. ...بعد قليل، رجع مهللا .. "افرح يا دكتور افتكينا.. افتكينا.. توا سع نوصلوا نلقو المشير بوغزالة يستقبلنا ويكبر بينا وبعدين انت يا دكتور تفتح عيادة وانا نكون معاك تمرجي!!" ...
مع أني أدركت أن يقصد الفريق بوغزالة وزير الدفاع المصري في ذلك الحين، قلت في عقلي هذا ليس مخابرات وبس،.. " مسمع" فوق منها. علامات الذهول من هذا الموقف الصعب بدت على وجهي وأنا بين مصدقاً ومكذب ما اسمع واري، حينها اقترب مني "بنينه" وهمس في أذني ..." الطيارين أكيد هاربين الي مصر، ما تخاف.. ما تخاف تو نفتحوا العيادة ونفتكوا "منّه". الرحلة للسارة ساعة.. هاذيم فاتوا غادي". لم انبس بكلمة، ولم تتغير ملامحي حتي لا يفسرها أنني اوافقه علي ما يقول، طبعا هذا يتجسس عليّ.
مرت الدقائق ببطء ولم يخفف من ثقلها إلا فرح "بنينه" وغبطته متقدماً الي قمرة الطائرة بالتكبير ..الله أكبر.. الله أكبر.. الله ينصركم يا أبطال!
آثار الصوت المرتفع "لبنينه" الطيارين وربما فرحوا بكلمة أبطال، ليخرج أحدهم من القمرة ليعلن لنا أنهم كُلفوا بمهمة تجسسية فوق الأراضي التشادية وأننا الآن في طريق العودة الي السارة..... وقعت هذة الكلمات علي " بنينه" كالصاعقة وانقطع صوته، راجعاً ليجلس بجواري منكسراً، فوضعت يدي علي كتفه بحرارة. عندها رفع راسه من جديد قائلاً" يا دكتور لا عيادة لا تمرجي".... همست بصوت منخفض "خيرها في غيرها".


 حكاوي " بنينه" ( 3)
كبانية إقلال الوالي :: مو غايب منهم لا والي
وانا الحظ علامات الخيبة على وجه " بنينه" محاولا رفع معنوياته، ادركت انه يتمنى ان يهرب الطيارين الى مصر كما حدث في المدة الماضية حين تناقلت الأنباء هروب طيار ليبي بطائرته العسكرية اليها، وبالطبع كان ذلك الحدث يتصدر نشرات الأخبار، خصوصا إذاعة " لندن" التي يعتبرها عدد كبير من الليبيين مصدر " النبأ اليقين". وانا على هذا الحال، اذ بسيادة المقدم يأتي بجواري معرفاً بنفسه، وتبدو عليه علامات التواضع والأدب قائلاً؛ السلام عليكم، كيف حالكم ... ان شاء الله تمام ...انا المقدم عبدالسلام ..
وقف على الفور " بنينه" مؤديا التحية العسكرية وحالة الاستعداد بطريقة حرفية ولكنها تدعو الى الضحك في ذات الوقت،.. رد التحية مقدم عبدالسلام ومعلقا شكرًا لك ولكن نحن في الطائرة، خدوا راحتكم!!
لا لا كيف يا رَآه ... رد " بنينه" انت المقدم عبدالسلام، ما سمعنا عنك الا كل خير، عسكري " مزبوط" وسمعتك كلها احترام .... وتنحى جانبا وأسر في أذني " هذا المقدم عبدالسلام حاجة كبيرة، كوز كبيييير" ...
دخلت في حديث مع سيادة المقدم، وهو في الحقيقة في غاية الاناقة والأدب واللياقة، يعني عسكري عسكري،.. وكعادة الليبيين حين يلتقون لابد ان يجدو انهم يشتركان في معرفة شخصا هما الاثنين، قلت له انا صديقي ومن دفعتي سالم من " شحات"، درسنا معا في كلية الطب " قاريونس"، لكنه خرج من ليبيا ولم اسمع عنه شيء بعد ذلك....
أومأ الي انه يعرف أهله، وكان مدخل للحديث عندما توجهت اليه بالسؤال عن طبيعة عمله، ... فقال انه يقود لواء ميكانيكي تحرك من " بوعطني" الى " الفاشر" في السودان وبعد عدة أشهر أتتهم أوامر بالرجوع الى ليبيا والتحرك الى قاعدة " السارة". في ذلك الوقت كانت معلوماتي العسكرية ضحلة جدا ولا أستطيع حتى التفريق بين السرية والكتيبة واللواء والفرقة !
كان سلساً في حديثه، تطمئن اليه بسرعة مع ما يظهر عليه من علامات الكفاءة والتواضع " يعني متربي"، ذلك ما دعاني الى الاستفسار عن عرمة الاحذية التي أمامنا في الطائرة " اسبيدروات" وبنوع من الدعابة قلت له؛ هاذين يصلحن للجري على الرمل يا أفندي عبدالسلام!!
كنت اقصد " الهروب"، فتلك الفترة هي التي اعقبت هزيمة " وادي الدوم" وهروب الكثيرين من أفراد الجيش الليبي في ذلك الموقع.... بادلني بابتسامة، ولكنه لم يعلق على قصة الهروب...
وبشيء من الفضول المعرفي سألت عن معنى كلمة لواء، مما جعله يجيبني بشيء من التفصيل، مبتدأ بالسرية والكتيبة ثم اللواء والفرقة.. تقريبا استغرق حديثنا نصف ساعة عرفت فيها انه تعرض لقصف على قواته في السودان ولكن لم يفقد احد من جنوده، لانه كان ينقلهم باستمرار ولا يستقر في مكان واحد.. خرجت بانطباع انه قائد مؤهل ومحترف وعلى خلق رفيع، والا لما تحدث بهذا الإسهاب والتواضع مع طبيب حديث التخرج، لا يعرف "كوعه من بوعه" في العلوم العسكرية.
وصلت الطائرة الى قاعدة " السارة" وعند خروجنا منها كان في استقبال المقدم عبدالسلام العقيد خليفة آمر القاعدة، وبَدأ بطوله الفارع ولباسه العسكري مهيبا، وعلامة صنف الصاعقة على ملابسه وأحاط نفسه بشيء من الغموض تخفيه النظارة السوداء على عينيه... عانق المقدم عبدالسلام بعد التحية العسكرية الخفيفة التي قدمها اليه، لكن ما استرعى انتباهي هو " بنينه" الذي تحرك في اتجاه الآمر العقيد خليفة بخطوات ثابته وقوية على الارض ضاما يديه الى جنبه ثم رافعا يده اليمنى، ليقدم التحية العسكرية بكامل مراسمها للعقيد خليفة الذي رد عليه التحية وانا انظر الى قيافة " بنينه" المعكرشة والقبعة " الباريه" على راْسه بوضع مائل يثير الضحك.
تذكرت حينها وانا ارى العقيد خليفة ما قال النقيب احمد في مقر السرية الطبية في الكفرة، بعد ان قدم لنا واجب الضيافة في منزلة. ذكر لنا ما سمعه من العقيد خليفة شخصيا، وهو انه بِعُث به الى " السارة" حتى يلحق العقيد خليفة ؟!!!!
فهمت حينها درجة الامتعاض عند كبار ضباط الجيش من حرب تشاد، خصوصا بعد هزيمة " وادي الدوم" التي فقد فيها الجيش الليبي المئات بين قتيل وأسير بيد او عند التشاديين.
غادر المقدم مع سيادة العقيد في تويوتا مغلقة رباعية الدفع، مما أفسح المجال لرفاق " بنينه" ومستقبليه وهم يغنون ترحيبا به....
كبانية إقلال الوالي :: مو غايب منهم لا والي
مع نوبة من الكشك والتمجريد والسلام الحار المصحوب بالعناق لصديقهم.....لم يكن أحد في انتظاري، وعليه بادر " بنينه" بتقديمي الى رفاقه بكثير من الإطراء.... تفضل يا دكتور... هذا الدكتور حاجة كبيرة...ركبت معهم في مقدمة السيارة " تويوتا"، وباقي المجموعة ركبوا سطح او صندوق السيارة وأرجلهم تتدلى على الجوانب والجميع في حالة من الفرح والسرور...
وصلنا الى مقرهم، الذي صادف انه يقع بجوار العيادة وبدات رحلتي معهم في قاعدة "السارة"
كبانية إقلال الوالي :: مو غائب منهم لا والي


حكاوي " بنينه" (4)
البندقه " ١٢٤٥٥"
وصلنا الى المقر او مكان سكنى " الكبانيه" بعد وقت العصر بقليل، لنجد آخرين في استقبال " بنينه" الذي كان مسرورا جدا بلقائهم وهو لا يفارق معانقة احدهم حتى يجد الاخر في انتظاره، وكانت له طقوس عجيبة في ذلك تبعث على الذهول في طريقة إيقاف احدهم متجمدا وقوفا وهو يحيه بغناوة " علم" وما ان ينتهي منها حتى ينقضا على بعضهما بالعناق والتضبيط مع الكبكبة عديد المرات على الخدين، ليرفع " بنينه" يده اليمنى عاليا إشارة ترحيب بالاخر ....
هالني هذا المظهر الاحتفالي ب " بنينه" وهو الذي يبدو بسيط جدا و " عادي" او بتعبير ليبي " راقد ريح"،... و ادركت ان عنده " سر" لابد من اكتشافه؟!!
اغلب الذين كانوا في استقباله من المنطقة الشرقية او برقه يعني " شراقه، لكن ايضا كانت هناك العديد من الغرب الليبي " غرابه" وكذلك من الجنوب " فزازنه. ... ، وكل ما ينتهي من السلام عليهم، يقوم بالتعريف بي بعد ان يمسك بيدي جاذبا إياها نحوه وهو واقف؛ هذا السيد الدكتور،... تعال هنياهي ياليد، .. سلم على الدكتور،.. سلم ززين!!
احاطوني بحفاوة فطرية، يصبغها جو من المرح والنكث المخلوط بتسقطهم عن آخر اخبار ليبيا وبنغازي ... بصفة عامة من كان في " السارة" يعيش شبه معزول عن ما يجري في العالم من حوله وذلك يشمل حتى ليبيا، فلا اتصالات ميسرة والتلفزيون شبه معدوم....
..... راكبها القحيط يا جماعة، نالقنها راكبها القحيط ؟!!! هذا ما بدا به " بنينه" كلامه عندما انتهوا من السلام والترحيب،...
الغريب ان " بنينه" أتى من الكفرة وليس بنغازي، ولكن ربما لانه يعمل في جهاز المخابرة كانت الفرصة متاحة له في الاتصالات، فما كان يقوله عن بنغازي هو تماماً ما اعرف ان الناس يتحدثون عنه.... اثنين من أصدقائه كانوا يقومون بخدمة الجميع، وزعوا التمر والحليب وأكدوا على الجميع ان العشاء تلك الليلة عندهم.
عرفت حتى الان ان اغلبهم مجندين إجباريا، بعضهم متزوج والبعض الاخر لا يزال اعزب، وان عدد كبير منهم من الصابري وسيدي يونس و البركة، وهي احياء في مدينة بنغازي. كانوا بسطاء يحاولون ان يخلقوا " جو" لتمضية الوقت، اذ كان واضحا أيضاً علامات المرارة على بعضهم الذين شهدوا هزيمة " وادي الدوم" ويتكلمون عنه بحسرة وغضب تخفيه المظاهر الاحتفالية لقدوم صديقهم وزميلهم " بنينه".
استثنى " بنينه" شخصا محددا، عرفت فيما بعد انه رئيس عرفاء وحدة أسمه منصور الترهوني بسلام خاص، فما ان شهده يدخل المكان حتى نهض اليه وهو يتكلم بصوت مسموع ؛ نا دخيلتك،.. نا دخيلتك !! ... رد عليه منصور بعد السلام الحار لا يهمك لا يهمك، اعتبر الموضوع تم!!...
هنا التفت " بنينه" نحوي وبصوت منخفض قال لي، منصور " بوها وكيالها" الميضوع كله عنده،.. عندها سألته؛ موضوع ماذا؟!
اقترب مني أكثر، وأسر في أذني " البندقه ١٢٤٥٥"؟!!
وكأنه يتكلم بلغة " الطلاسم"، بندقة أيش يا " بنينه" الله يربحك؟!..
قصه طويله يا دكتور، هاذيم ليهم قريب شهرين وهم يجروا ورأي وطالبين مني " البندقه ١٢٤٥٥"، اللي كانت عندي، وكان تبي الحق يا دكتور انا " سكيتها" من زمااان؟!
..... هنا اختلط عليّ الامر، ورجعت شكوكي حوله بانه من الاستخبارات ويتجسس عليّ، لكنه طيب جدا وما رأيت منه حتى الان الا كل خير... لكن هذه " بندقه" وفي ليبيا حتى من عنده " مقرون" أخدوه منه؟ ... لماذا اختلطت بشخص مشبوه وربما يحققون معه، وياتي باسمي في التحقيق ونمشي في " كيلو زيت"!
المهم انني تلك الليلة كنت متعب من طول الانتظار، وقد بلغ مني الجوع ما شاء الله، فكان للتمر والحليب طعم آخر لم أدبه من قبل، وانا أكله بنهم واضح، بما يبدو انه اثار " بنينه" مشيرا الى احد أصدقائه بأن يفتح " الكت" ويخرج منه الغنيمة التي " مشطها" من الطائرة ...
رد عليه صديقه؛ كنك يا رَآه الخير كأثر،.. احنا " شلفطنا" كم شي صندوق من الطيارة لما جيناك بدري!!!
وقف " بنينه" مخاطبا الجميع .. اسمعوا يا جماعة " رزق الحكومة كيف الرميمة منين يواتيك انتش" وانا عبيت " الكت" زين وما تخافوا تمر رمضان كله عندي ... ضحك الجميع وكانهم يقرونه على فعله الذي كنت أظن انه " مستهجن" عند الناس والعامة ؟!
بعد صلاة المغرب التي لم يصليها الا القلة أتوا بالعشاء، مكرونة " خرز"، مبكبه جاريه وحاره، فيها لحم ضأن اكلت منها بعد ان توزعنا الى خمسات، ولم نبقي منها حتى " خرزة" واحدة عن العين. .. استمر الحديث بعد العشاء ونحن نشرب الشاهي دور بعد دور " احمر مقطر" تقول قطران يمسح الكبد..
متعب واصارع النوم، عرفت ان قدوم " بنينه" للسارة" هو بخصوص أمرين:
الاول، " بيعك تفريط يام قشاشيط" التي التقطتها مجموعة الدعم الالكتروني ولم يستطيعوا فك شفرتها، وقد جائت في حديثة في الكفرة مع احد أصدقائه من مجموعة المخابرة في " السارة" ظانين انها إشارة الى عمل يخطط له مع غيره، يهدد أمن " ليبيا.
والثاني، هي قصة " البندقه" التي كانت بحوزته ومخصصة له تحت رقم " ١٢٤٥٥"، ولم يتم إثباتها في محاضر الجرد، وعليه يبدو انهم ربطوا بين الموضوع الاول والثاني وبهما اصبح " بنينه" متهم، ربما بتخطيط عمل ارهابي في "ليبيا"
خلدت الى النوم وعقلي مشتت بين العيادة الطبية التي اتيت للعمل فيها، و " البلغمة" التي تنتظر " بنينه" وإمكانية ان اجد نفسي في الموضوع من حيث لا ادري، عملا بمبدأ " كراع الديك تجيب كراع الدجاجة" الذي كان معمولا به في ذلك الوقت......




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق